فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



السؤال الثاني: كما لا يجوز للإنسان أن يريد من نفسه أن يعصي الله تعالى فكذلك لا يجوز أن يريد من غيره أن يعصي الله، فلم قال: {إِنّى أُرِيدُ أَن تَبُوء بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ}.
والجواب من وجوه:
الأول: قد ذكرنا أن هذا الكلام إنما دار بينهما عندما غلب على ظن المقتول أنه يريد قتله، وكان ذلك قبل إقدام القاتل على إيقاع القتل به، وكأنه لما وعظه ونصحه قال له: وإن كنت لا تنزجر عن هذه الكبيرة بسبب هذه النصيحة فلابد وأن تترصد قتلي في وقت أكون غافلًا عنك وعاجزًا عن دفعك، فحينئذٍ لا يمكنني أن أدفعك عن قتلي إلا إذا قتلتك ابتداءً بمجرد الظن والحسبان، وهذا مني كبيرة ومعصية، وإذا دار الأمر بين أن يكون فاعل هذه المعصية أنا وبين أن يكون أنت، فأنا أحب أن تحصل هذه الكبيرة لك لا لي، ومن المعلوم أن إرادة صدور الذنب من الغير في هذه الحالة وعلى هذا الشرط لا يكون حرامًا، بل هو عين الطاعة ومحض الاخلاص.
والوجه الثاني في الجواب: أن المراد: إني أريد أن تبوء بعقوبة قتلي، ولا شك أنه يجوز للمظلوم أن يريد من الله عقاب ظالمه.
والثالث: روي أن الظالم إذا لم يجد يوم القيامة ما يرضي خصمه أخذ من سيئات المظلوم وحمل على الظالم، فعلى هذا يجوز أن يقال: إني أريد أن تبوأ بإثمي في أنه يحمل عليك يوم القيامة إذا لم تجد ما يرضيني، وبإثمك في قتلك إياي، وهذا يصلح جوابًا عن السؤال الأول، والله أعلم. اهـ.
السؤال الثالث: فإن قيل: كيف أراد هابيل وهو من المؤمنين أن يبوء قابيل بالإِثم وهو معصية، والمؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه؟
فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنه ما أراد لأخيه الخطيئة، وإِنما أراد: إِن قتلتني أردت أن تبوء بالإِثم، وإِلى هذا المعنى ذهب الزجاج.
والثاني: أن في الكلام محذوفًا، تقديره: إِني أُريد أن لا تبوء بإثمي وإِثمك، فحذف «لا» كقوله: {وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم} [لقمان: 10] أي: أن لا تميد بكم، ومنه قول امرئ القيس:
فقلتُ يمينُ اللهِ أبرحُ قاعدًا ** ولو قطَّعوا رأسي لَدَيْكِ وأوصالي

أراد: لا أبرح.
وهذا مذهب ثعلب.
والثالث: أن المعنى: أريد زوال أن تبوء باثمي وإِثمك، وبطلان أن تبوء باثمي وإِثمك، فحذف ذلك، وقامت «أن» مقَامه، كقوله: {وأُشربوا في قلوبهم العجلَ} [البقرة: 93] أي: حبّ العجل، ذكره والذي قبله ابن الأنباري. اهـ.
السؤال الرابع: فإن قيل: إِذا كان إِثم قاتل الواحد كإثم من قتل الناس جميعًا، دل هذا على أنه لا إِثم عليه في قتل مَن يقتله بعد قتل الواحد إِلى أن يفنى الناس؟
فالجواب: أن المقدار الذي يستحقّه قاتل الناس جميعًا، معلوم عند الله محدود، فالذي يقتل الواحد يلزمه ذلك الإِثم المعلوم، والذي يقتل الاثنين يلزمه مثلاه، وكلما زاد قتلًا زاده الله إِثمًا، ومثل هذا قوله: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} [الأنعام: 160] فالحسنة معلوم عند الله مقدار ثوابها، فعاملها يعطى بمثل ذلك عشر مرات.
وهذا الجواب عن سؤال سائل إِن قال: إِذا كان من أحيا نفسًا فله ثواب من أحيا الناس، فما ثواب من أحيا الناس كلَّهم؟ هذا كله منقول عن المفسرين.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله تعالى: {إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي}، فيه ثلاثة تأوِيلات:
أحدها: على حَذْفِ همزة الاستفهام تقديره: أإنِّي أريد؛ وهو استفهام إنكَار؛ لأن إرادة المَعْصِيَة قبيحَةٌ، ومن الأنْبِيَاء أقبح؛ فهم معْصُومُون عن ذلك، ويؤيِّد هذا التَّأويل قراءة من قرأ {أنَّى أريد} بفتح النون، وهي «أنَّى» التي بمعنى «كَيْفَ»، أي: كيف أريد ذلك.
والثاني: أنَّ «لا» محذوفةٌ تقديره: إني أريدُ أن لا تَبُوء، كقوله تعالى: {يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء: 176]، وقوله تعالى: {رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15]، أي ألاّ تضلّوا وألا تميد وهو مستَفِيضٌ وهذا أيضًا فرار من إثْبَات الإرَادَة له، وضعَّفَ بعضهم هذا التَّأويل بقوله- عليه الصلاة والسلام-: «لا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إلاَّ كانَ على ابْنِ آدمَ الأوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِها؛ لأنَّهُ أوَّلُ مَنْ سَنَّ القَتْلَ».
فثبت بهذا أن الإثْمَ حاصلٌ، وهذا الَّذي ضعَّفه به غير لاَزِم؛ لأن قائِل هذه المقالة يقول: لا يلزم من عَدَمِ إرادَته الإثْم لأخيه عَدَم الإثم، بل قد يريد عدمه ويَقَع.
الثالث: أن الإرادة على حَالها، وهي: إمَّا إرادة مَجَازية، أو حقيقيَّة على حَسَبِ اختلاف المُفسِّرين في ذلك، وجَاءَت إرادة ذلك به لمعانٍ ذكرُها، من جملتها:
أنَّه ظهرت له قَرائِن تدلُّ على قرب أجلهِ، وأنَّ أخاه كافر، وإرادة العُقُوبَة بالكافر حَسَنة.
وقوله: {بِإثْمِي} في مَحَلِّ نصبٍ على الحال من فاعل {تبُوء} أي: ترجعُ حاملًا له ومُلْتبسًا به، وقد تقدم نَظِيرُه في قوله: {فَبَاءُو بِغَضَبٍ} [البقرة: 90] وقالوا: لابد من مُضافٍ، فقدَّره الزَّمَخْشَرِيُّ بمثلَ إثمي قال: «على الاتِّسَاع في الكلام، كما تقول: قرأت قراءة فلان، وكتبت كِتَابَته».
وقدَّره بعضهم «بإثْمِ قَتْلِي، وإثم معصِيَتك التي لم يُقبل لأجلها قُرْبَانك، وإثْم حسدك».
وقيل: معناه إنِّي أريد أن تَبُوءَ بعقاب قَتْلي فتكون إرادة صَحِيحَة؛ لأنَّها موافقة لِحُكم الله- عزَّ وجلَّ-، ولا يكون هذا إرادة للقَتْل، بل لموجِبِ القتل من الإثْم والعِقَاب رُوِي أن الظَّالم إذا لم يَجِد يوم القِيَامة ما يرضي خَصْمَه، أُخِذَ من سيِّئَات المَظْلُوم وحمل على الظَّالم، فعلى هذا يَجُوز أن يُقَال: إنِّي أُريد أن تَبُوء بإثْمي في قَتْلِك، وهذا يَصْلُح جوابًا. اهـ.

.تفسير الآية رقم (30):

قوله تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان هذا الوعظ جديرًا بأن يكون سببًا لطاعته وزاجرًا له عن معصيته، بين تعالى أنه قسا قلبه فجعله سببًا لإقدامه، فقال- مبينًا بصيغة التفعيل، إذ القتل لما جعل الله له من الحرمة وكساه من الهيبة لا يقدم عليه إلا بمعالجة كبيرة من النفس-: {فطوعت له} أي الذي لم يتقبل منه {نفسه قتل أخيه} أي فعالجته معالجة كبيرة وشجعته، وسهلت له بما عندها من النفاسة على زعمها حتى غلبت على عقله فانطاع لها وانقاد فأقدم عليه؛ وتحقيق المعنى أن من تصور النهي عن الذنب والعقاب عليه امتنع منه فكان فعله كالعاصي عليه، ومن استولت عليه نفسه بأنواع الشبه في تزيينه صار فعله له وإقدامه عليه كالمطيع له الممكن من نفسه بعد أن كان عاصيًا عليه نافرًا عنه، ثم سبب عن هذا التطويع قوله: {فقتله} وسبب عن القتل قوله: {فأصبح} أي فكان في كل زمن {من الخاسرين} أي العريقين في صفة الخسران بغضب الله عليه لاجترائه على إفساده مصنوعَه، وغضب أبناء جنسه عليه لاجترائه على أحدهم، وعبر بالإصباح والمراد جميع الأوقات، لأن الصباح محل توقع الارتياح، قيل: إنه لم يدر كيف يقتله، فتصور له إبليس في يده طائر فشدخ رأسه بحجر فقتله، فاقتدى به قابيل، فأتى هابيل وهو نائمٌ فشدخ رأسه بحجر. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قال المفسرون: سهلت له نفسه قتل أخيه.
ومنهم من قال شجعته، وتحقيق الكلام أن الإنسان إذا تصور من القتل العمد العدوان كونه من أعظم الكبائر، فهذا الاعتقاد يصير صارفًا له عن فعله، فيكون هذا الفعل كالشيء العاصي المتمرد عليه الذي لا يعطيه بوجه ألبتة، فإذا أوردت النفس أنواع وساوسها صار هذا الفعل سهلًا عليه، فكأن النفس جعلت بوساوسها العجيبة هذا الفعل كالمطيع له بعد أن كان كالعاصي المتمرد عليه.
فهذا هو المراد بقوله: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} قالت المعتزلة: لو كان خالق الكل هو الله تعالى لكان ذلك التزيين والتطويع مضافًا إلى الله تعالى لا إلى النفس.
وجوابه: أنه لما أسندت الأفعال إلى الدواعي، وكان فاعل تلك الدواعي هو الله تعالى فكان فاعل الأفعال كلها هو الله تعالى.
ثم قال تعالى: {فَقَتَلَهُ} قيل: لم يدر قابيل كيف يقتل هابيل، فظهر له إبليس وأخذ طيرًا وضرب رأسه بحجر، فتعلم قابيل ذلك منه، ثم إنه وجد هابيل نائمًا يومًا فضرب رأسه بحجر فمات.
وعن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها» وذلك أنه أول من سن القتل.
ثم قال تعالى: {فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين} قال ابن عباس: خسر دنياه وآخرته، أما الدنيا فهو أنه أسخط والديه وبقي مذمومًا إلى يوم القيامة، وأما الآخرة فهو العقاب العظيم.
قيل: إن قابيل لما قتل أخاه هرب إلى عدن من أرض اليمن، فأتاه إبليس وقال: إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يخدم النار ويعبدها، فإن عبدت النار أيضًا حصل مقصودك، فبنى بيت نار وهو أول من عبد النار.
وروي أن هابيل قتل وهو ابن عشرين سنة، وكان قتله عند عقبة حراء، وقيل بالبصرة في موضع المسجد الأعظم، وروي أنه لما قتله اسود جسده وكان أبيض، فسأله آدم عن أخيه، فقال ما كنت عليه وكيلًا، فقال بل قتلته، ولذلك اسود جسدك، ومكث آدم بعده مائة سنة لم يضحك قط.
قال صاحب الكشاف يروى أنه رثاه بشعر.
قال وهو كذب بحت، وما الشعر إلا منحول ملحون، والأنبياء معصومون عن الشعر، وصدق صاحب الكشاف فيما قال.
فإن ذلك الشعر في غاية الركاكة لا يليق بالحمقى من المعلمين، فكيف ينسب إلى من جعل الله علمه حجة على الملائكة. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {فطوّعت له نفسه} فيه خمسة أقوال:
أحدها: تابعته على قتل أخيه، قاله ابن عباس.
والثاني: شجَّعته، قاله مجاهد.
والثالث: زيَّنت له، قاله قتادة.
والرابع: رخَّصت له، قاله أبو الحسن الأخفش.
والخامس: أنَّ {طوّعت} فعَّلت من «الطوع» والعرب تقول: طاع لهذه الظبية أصول هذا الشجر، وطاع له كذا، أي: أتاه طوعًا، حكاه الزجاج عن المبرّد.
وقال ابن قتيبة: شايعتْه وانقادت له، يقال: لساني لا يَطوع بكذا، أي: لا ينقاد.
وهذه المعاني تتقارب.
وفي كيفية قتله ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه رماه بالحجارة حتى قتله، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: ضرب رأسه بصخرة وهو نائم، رواه مجاهد عن ابن عباس، والسدي عن أشياخه.
والثالث: رضخ رأسه بين حجرين.
قال ابن جريج: لم يدر كيف يقتله، فتمثّل له إِبليس، وأخذ طائِرًا فوضع رأسه على حجر، ثم شدخه بحجر آخر، ففعل به هكذا، وكان ل «هابيل» يومئذٍ عشرون سنة.
وفي موضع مصرعه ثلاثة أقوال:
أحدها: على جبل ثور، قاله ابن عباس.
والثاني: بالبصرة، قاله جعفر الصادق.
والثالث: عند عَقْبَة حِرَاء، حكاه ابن جرير الطبري.
وفي قوله: {فأصبح من الخاسرين} ثلاثة أقوال:
أحدها: من الخاسرين الدنيا والآخرة، فخسرانه الدنيا: أنه أسخط والديه، وبقي بلا أخ، وخسرانه الآخرة: أنه أسخط ربه، وصار إِلى النار، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه أصبح من الخاسرين الحسنات، قاله الزجاج.
والثالث: من الخاسرين أنفسهم بإهلاكهم إِيّاها، قاله القاضي أبو يعلى. اهـ.